الأحد، 4 يناير 2009

2. عند أول فراق




" تعلن شركة الخطوط الجوية الألمانية ( لوفت هانزا ) عن قيام رحلتها

رقم 261 والمتجهة إلى فرانكفورت ..

على حضرات السادة الركاب التوجه إلى صالة السفر رقم 2 "




كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة من صباح يوم جديد لشهر أغسطس ..

حيث اعتاد الطقس في تلك الفترة من الصيف

على أن يقسو بعض الشئ على سكان مصر عامة ..

ومدينة الإسكندرية بصفة خاصة ..

بل وفى هذا اليوم على أسرتي بالذات ..

الحرارة مرتفعة ..

النسمات قليلة ..

والجو مشحون بالمشاعر ..





ـ مسافر فين إن شاء الله ؟!




ـ ألمانيا بإذن الله




ـ واضح من التأشيرة أنك مسافر دراسة

بالتوفيق يا بني ..

احتفظ بكعب تصريح السفر ده لغاية باب الخروج من المطار ..

ربنا معاك ..




تسلمت جواز سفري من ضابط الجوازات بالمطار وهو يدعو لي بالتوفيق ..

كان آخر شخص دعا لي قبل أن أخرج من أرض المحروسة ..

وما هي إلا لحظات ..

حتى وجدت نفسي أربط حزام الأمان داخل الطائرة ..

استعدادا للإقلاع من تراب مصر إلى المستقبل المجهول !!!

الأحداث تتلاحق ..

ولم أعرف طعم النوم في الأربع والعشرين ساعة الأخيرة قبل سفري ..





ـ لو سمحتِ حضرتك .. عندي صداع رهيب .. ممكن أسبرين ؟!!




ـ أكيد طبعا ... دقايق و حيكون عندك !!





أسندت رأسي إلى النافذة وأغمضت عيني قليلا علني أستريح بعض الشيء

من هذا الصراع الدامي والذي لم يتوقف طوال الأيام الماضية ..

كيف استطعت أن أترك أهلي وأخواتي وأرحل ؟!!!

كيف استطعت أن أودع تراب مصر ..

وبحر الإسكندرية ..

وذكريات عمر مضى ..

هي حصيلة ثلاثة وعشرون عاما !!!!!

هل أنا إنسان آخر ؟ !!!!!





ورجعت بذاكرتي إلى الأربع والعشرين ساعةً الأخيرة ..

تلك الساعات الرهيبة ..

والتي تتابعت فيها الأحداث بشكل درامي ..

واكتسحت خلالها جرافات السفر كل مااعترض طريقها من مشاعر ..

وذكريات ..

وتوسلات ..

من داخل نفسي أولا ..

ومن نظرات الأب والأم والأخوات !!!!

نعم ..

لقد اكتسحتها تماما ..

و بلا رحمة ..

جعلتها والأرض سواء !!!!!

تلاحقت الأحداث بسرعة البرق وبلا توقف ..

فقد حصلت على التأشيرة يوم الأربعاء ..

وكان عليّ أن أسافر فجر الخميس ..

أي في اليوم التالي مباشرة ..

حيث هناك امتحان مصيري ينتظرني يوم الجمعة سيحدد مستقبلي ..

وما إذا كنت سأقبل بالجامعة ..

أم أعود إلى مصر بخفيّ حنين !!!

فقد كنت في اتجاهي لخوض صراع رهيب ..

ولكن من نوع آخر ...






ـ آلو ... أيوه يا ماما ربنا وفقني وأخدت التأشيرة




وبصوت يحمل فرحة المفاجأة ...



ـ بجد يا بني .. الحمد لله



ـ أنا حروح دلوقتي اشتري شوية حاجات ناقصاني




ـ طب ما تتأخرش ..

أنت يعني خلاص حتسافر النهاردة الفجر ؟؟




ـ أيوه ..

كده طيارتي الفجر الساعة ثلاثة ..




واحتبس صوتها للحظات..

ثم تداركت الموقف ..



ـ طب هات حاجاتك بسرعة وتعالى ...

ماتتأخرش !!!



وأحسست بأول مرارة في حلقي بعد تلك المكالمة ..

ففى هذة اللحظات تصبح الدقائق بحق أغلى من الذهب ..

ذهبت لأشتري متعلقاتي ..

وبدأت رأسي تدور ..

فقد كان هذا يعني أنني بعد أقل من 14 ساعة سوف أرحل !!!

وهناك فارق كبير بين أن تتخيل الشيء وبين أن تعيشه واقعا ملموسا !!!

ولهذا قال الله تبارك وتعالى في محكم آياته ..

( كلا لو تعلمون علم اليقين . لترونّ الجحيم . ثم لترونها عين اليقين )

فشتان بين أن تعرف ..

وبين أن ترى وتعيش بنفسك !!!

ذهبت إلى البيت ..

وإذا بأبي يفتح لي الباب ..

ابتسم لي ابتسامة الأمل والتشجيع ..

كان قويا شامخا كعادته ..

ولكني أحسست لأول مرة في حياتي بأنة يتمزق من داخله ..

حاول جاهدا أن يخفي عني هذه المشاعر ..

ولكني سمعتها مع نبضات قلبه عندما احتضنني ليهنئني بالتأشيرة ..

شعرت بجبال تنهار داخله ..

فيغطي صوت صخورها المنهارة على دقات القلب الحزينة ..





ـ الحمد لله يا بني ..

ربنا يوفقك في طريقك ...

ها نفسيتك إيه ؟!!!




كان سؤالا عجيبا !!!!

فقد شعر بحاسة الأب أنني بدأت أيضا أرتعد من الداخل ..

فأراد أن يشحذ الهمة ..

ويعطيني الثقة ..




ـ الحمد لله .. يمكن بس أكون قلقان شوية !!




ورمقته بنظرة ..

فوجدت في عينيه نظرة التحدي ..

وكأنه يريد أن يرى حصاد سنين تربيته لابنه الوحيد في تلك اللحظة الحاسمة ..

فأردت ألا أخيب ظنه ..

ونظرت في عينيه نظرة الثقة والأمل في الله ..




ـ إن شاء الله يا بابا مش حخيب ظنك !!!






كانت أمي و أخواتي يجهزون لي كل شيء ..

شنطة سفري يحملون بها كل ما يتوقعون أنني ربما سأحتاجه في الغربة ..

ملابس ..

أدوات ..

حتى الخيط وإبرة الخياطة ..

وذهبت للمطبخ لأجد أمي على حالها الدائم في كفاحها المستمر ..




ـ بتعملي إيه بس يا ماما ؟!!




ـ بص .. أنا بعملك شوية قراقيش عشان تفطر وتتعشى منهم ...

وأهو يبقوا معاك لغاية ما تعرف الأكل هناك هيكون إزاي !!




ـ وبتتعبي نفسك ليه دلوقتي ؟!!




ـ يا بنى طب خليني الحق أتعبلك قبل ما تسافر ..

يا عالم هتلاقي مين هناك يعملك حاجه !!!!



احتبس صوتها ..

وفاضت عيناها ..

واستدارت عني حتى لا أرى دموعها ..

في تلك اللحظات فقط من حياتك تشعر بمزيج عجيب من المشاعر ..

تشعر بأنك مركز الأنانية ..

ومستقر الدونية !!!

فكل هؤلاء الأحباء لا يريدون سوى سعادتك ..

ويؤثرون مصلحتك على رغبتهم بأن تبقى معهم ليأنسوا بك !!!

نصبوا من أنفسهم جنوداً لك ..

يجهزوا لك كل شيء ..

ثم تشعر بحقيقة مشاعر الحب

وأنت تنتزع من بينهم قطعة قطعة ..

مع اقتراب ميعاد سفرك ساعة بعد ساعة !!!

ألهذه الدرجة قيمتي عند هؤلاء البشر ؟!!

ثم تشعر في تلك اللحظات وكأنك قلب والدك ..

ورئة والدتك ..

وعقل أخواتك ..

فكيف لهذا الجسد أن يعيش بدونك ؟!!!!




طب ما تفكر تاني ..

إيه اللي حيحصل يعني لو ماسافرتش ؟!!

أنا عندي هنا كليتي ودراستي وممكن أحاو .......




ـ يا محمود ... تعالى كده شوف إحنا رتبنا الشنطة إزاي ..



ـ إيه ده !!!! انتوا رتبتوا كل حاجة ؟!!!





تتلاحق الأحداث بحيث لا تجد وقتا للتفكير ..

خلاص ..

انتهى وقت التفكير !!!

وكانت المشكلة الأخرى في اثنين من الأخوات ..

ارتبطوا بي لدرجة الصداقة المتينة ..

كنا ولازلنا نتحدث في كل شيء ...

وأي شيء ..

نتناقش ونتحاور ونتعلم سويا من بعضنا البعض ..

فقد كنا ولازلنا سويا أوفى الأصدقاء !!!

هل لي أن أفكر ثانية ..

أراجع نفسي علني أست.....





ـ محمود ... تعالى .. خالو جه عشان يوصلك المطار !!





ياإلهى ...

لماذا تلاحقني الأحداث هكذا !!!!

تمر تلك الساعات بسرعة البرق ..

لم أتمنّ المستحيل في حياتي إلا في هذا الوقت ..

فقط أن تتمهل ساعة الزمن ..

تستريح قليلا ..

علني ألتقط أنفاسي ..

وأستريح أنا معها ..

ربما أعدل عن قراري ..

من أنا ؟!!

هل أنا إنسان آخر ؟!!!

لم أعرف معنى الأنانية في حياتي ..

فلماذا تصبح الآن هي واقع حياتي ؟!!!




وأودع جنبات منزلنا الحبيب ..

أركب السيارة في اتجاه مطار الإسكندرية

وعيناي ترمقان الطرقات في تلك الساعة المتأخرة من الليل وأنا لا أصدق ..

تمر الدقائق ..

والتساؤلات لا تتوقف ..

كيف أدركت نفسي تلك الصلابة والقسوة ؟!!

هل أنا إنسان آخر ؟!!!




نصل المطار ..

وتأتي اللحظات الحاسمة والأخيرة ..




ـ محمود .. مش حوصيك .. لو احتجت أي حاجة بس أدينا تليفون



ووسط هذا الخضم من التضحيات والمشاعر المتفجرة ..

لا تشعر إلا بأنك مزيج من الأنانية والقسوة ..

فأنت الذي حكمت على أحبائك بالإعدام ..

وأنت الذي تنفذ الآن هذا الحكم بلا شفقة أو رحمة !!!

ثم تأتي اللحظة الحاسمة كي تودعهم الوداع الأخير ..

فلا تعرف بمن تبدأ ..

وبمن تنتهي ..

تمشي الدورة لتحتضن الأم ..

ثم الأخت فالأخت..

وأخيراً الأب ..

وتسمع بكاء الأم ..

فتعاود ثانية لتحتضنها ..

ما هذا ؟!!!



طظ فى مييييييييية سفر !!!

وميييييييييييييية غربة !!!

أنا مش مسا ................




ـ يالا يا محمود ... يالا كفاية كدة ..



كان صوت خالي والذي دفعني لآخذ العربة بحقائبي ..

وأخذتها ولم أنظر ورائي ..

بل اندفعت نحو صالة المطار ..

شعرت بأن ورائي عمارة تنهار ..

تماما كما تنهار العمارات التي يقومون بتفجيرها بالديناميت ..

فتسقط دفعة واحدة ..

جثة هامدة ..

نعم ..

انهارت خلفي عمارة الأسرة مرة واحدة ..

ولكني لم أنظر خلفي !!!!!!!!

نعم لم أنظر ..

وحتى الآن لا أعرف لماذا لم أنظر !!!!!!!

أقسم بالله ..

لو أنني كنت قد نظرت خلفي لعدت لهم ثانية ..

ولكن لماذا لم أنظر ؟!!!

هل أبدلني الله شخصاً آخر حتى أستطيع الرحيل ؟!!!!

ربما ..

كنت أشعر بأنني أدوس على قلوبهم بعربة حقائبي وأنا متجه لصالة المطار ..

فيا من تفكر فى الغربة ..

حذار كل الحذر من أول لحظة فراق !!!

فكر ألف مرة قبل أن تتخذ قرار الغربة !!!

إن مرارة تلك اللحظة لازالت عالقة فى فمي حتى الآن ..

ولازلت أسأل نفسي ..

هل كنت إنسانا آخر ؟!!!

ولم أشعر إلا بيد المضيفة وهي توقظني من غفوتي ..




ـ الأسبرين يا فندم ... حضرتك نمت ولا إيه ؟!!!




ـ هه !!!! لا أبداً .. هو فاضل قد إيه لسه على الرحلة ؟!!!




ـ رحلة إيه حضرتك ... إحنا لسه في مطار اسكندرية ...

الطيارة لسه ماتحركتش ..

الرحلة لسه طويلة ... طويلة جدا !!!!!




وأدركت فى تلك اللحظة أن الساعات التي هرولت بسرعة البرق قبل السفر

قد تجمعت أحزانها معا وذلك كي أتجرع مرارتها لحظة بلحظة ..

وبمنتهى البطء ...

فكنت أتذكر كل دقيقة منها ..

وتمر على ذاكرتي وكأنها أياماً طويلة ..

وأدركت فى تلك اللحظة الحقيقة المرة ..



نعم ..

لقد كنت إنسانا آخر !!!






هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخ الكبير بحق .. محمود نجم

هل تسمح لي بالكلام العفوي النابع من القلب .. فلم أعتد سواه ..

أنت يامحمود تثير لدي كل شجون .. انت الانسان الذي عرفته من أول كلمة ..

وقلت هذا الانسان انا اعرفه واحبه من زمان الزمان ..

انت موجود في عيون كل اصدقاء الطفولة الذين عرفتهم

انت تمثل لي ذلك الدفء في المشاعر ..

فتعيدني الى مصر والى كل من عرفت من الطيبين

يامحمود أنا ابكي لانك انت بتحطني ف مصر في كل مشاركه

وانا لو ابتديت اتكلم واقول مصر ايه عند محمد رضا

هيطول الكلام ويطول ..

يقول الشاعر الرائع ..
أخاف لو بدأت بالحديث أن يطول
ما كل ما أريد أن أقوله .. يقال
القلب محكم الرتاج
من ثقوبه خواطري تسيل
أصابعي تجمدت في الحبر
والدواة نصف الليل

فيا محمود .. مصر مش كلمة عندي أو حدوته ..

مصر انت ومن على شاكلتك

مصر كل بنت وأخت فاضلة (مصرية أو مسلمة) خطت حروفها في هذا الموضوع الهرم

مصر الناس يامحمود

فلما دخلت هنا ..
وحسيت بوطء جليد كندا على روحي قبل جسدي

وحسيت (بيتم) أطفالي وهم بعيدون عن مصر ومن لهم فيها من ناس طيبين وعيلة كبيره

ابكي ..

ابكي بدون صوت ..

ابكي في داخلي

لكن هانت والله ..

يحضرني مقوله للابنودي ، بيقول ف مطلع قصيدة
ف الفجر
قال الادان زي ما كل يوم بيقول
قال لك : بلاد الكافرين .. ما تساع غير كافرين

فيا أخي الحبيب ...

أنا أحبك في الله

ولما قرأت كلماتك الرقيقة

لم أتمالك نفسي أن اكتب وابكي ..

ثم ابكي واكتب واكتب

يامحمود

انت رابع محمود يمر في شريط حياتي

بمثل تلك الشفافية والانسانية والمصرية

بارك الله لك في عمرك

ومتعك بالذرية الصالحة .. مع زوجة تصونك وتقدر لك قدرك ..

وفي الآخرة .. يجمعنا رب العزة تحت ظل عرشه وفي مستقر رحمته

يرحم والديك يامحمود ،

ويرحم ربي كل من صاغ لنا هذا الانسان


اخوك
محمد اسماعيل ـ 44 سنة - كندا